لماذا نشاهد الأفلام الكلاسيكية؟ 🎞️

الملاحظ في أفلام التسعينيات التي أحبها أنها كانت تتمتع بميزة التلغيز التي تختبر الذكاء بشكل أنيق.

الأفلام الكلاسيكية وأبطالها / تصميم: أحمد عيد
الأفلام الكلاسيكية وأبطالها / تصميم: أحمد عيد

لماذا نشاهد الأفلام الكلاسيكية؟ 

علي حمدون

عندما سألني العزيز نايف العصيمي سؤاله الذي استوقفني لوهلة وجيزة: لماذا نشاهد الأفلام الكلاسيكية؟ أجبته مستحضرًا معلومة أنثروبولوجية كنت قد قرأتها قبل عدة سنوات، تفيد بأن قصص الإنسان بالمجمل عددها ما بين العشرين والثلاثين فقط، دون أن أتذكر العدد الصحيح بعينه.

كان المغزى من هذه المعلومة أنَّ كل فِلم شاهدناه عبارة عن قصة مكررة ابتدعت بصورة محسنة؛ نشاهد أحداثها من زاوية مختلفة، ولكلِّ مرويّة بَوْحُها الخاص. وفي العودة للنسخ القديمة التي قد تعج بالشوائب، كالأفلام الكلاسيكية، نستكشف أصالة الابتداع الأول بلا محسنات وبلا محاولة لاختلاق الاختلافات، ونشهد على الابداع الخام في تنفيذ القصة. 

ثم تفكرت في السؤال مجددًا وشعرت أن رأيي المتسرع يحوم حول محيط الإجابات الأوضح، وذلك لعدم تفكُّري المسبق في هذا السؤال بشكلٍ كافٍ بالنسبة لشخص يدعي أنه جهبذ سينمائي.

فقد تشابكت بعدها الآراء المتعددة لدي حول الإجابة الصحيحة في احتجابٍ مربك بالنسبة لي، في صورة تشبيه أدبي يقول: آراء متعددة غير ثابتة أقرب إلى الغبار المهمل الذي تحول إلى خيوط نسيجية ثم إلى كومة قطنية في زاوية غرفة العقل؛ بمعنى آخر، كومة لخبطة قابلة للذَّر!

الرأي الأول 

وهو أقرب إلى تساؤل يقول: هل مدلول الفِلم الكلاسيكي يتشكَّل حسب القالب الحنيني، كأن تُعزَّز جماليته بالومضات الزمنية المكانية ويكتسب مفهومه من رزنامة الجمهور الوجدانية وما يحيا في أعماق وجودهم الشخصي!؟ أن تكون تفضيلاتنا مرتبطة بوجود الأشخاص الذين شاركونا تلفزيونًا يتيمًا، واستظلوا معنا تحت سقف بيت الجدة الخفيض؟ 

هنا تحضرني الأفلام المصرية البسيطة واللطيفة التي لم تستوف حظها من الكمال والجمال، وكان وجودها على الأرجح بغرض استرضاء أميَّة بعض أفراد العائلة الكبار، لعدم إتقانهم اللغة الإنقليزية وعدم استطاعتهم قراءة الترجمة. فكانت تلك الأفلام الأرض المحايدة التي نتشارك من خلالها خشيتنا على حياة المناضل -الذي جسده عمر الشريف- من أن يُقبَض عليه ويعدم في شهر رمضان في الفِلم المقتبس من رواية إحسان عبدالقدوس «في بيتنا رجل» الصادر عام 1961. فالمناضل يعيش مختبئًا لدى عائلة متماسكة ومتعاضدة طوال فترة الشهر الفضيل، يشاركهم الإفطار والسحور كما لو كان ابنهم، في سريَّة تامة كنا نتشارك في كتمانها. 

أو الضحك والتعاطف مع الأب الشقي -الذي أدى دوره عماد حمدي- وهو يعاني في أثناء تدبير مهر ابنته الكبرى، فيقرر اختلاس المبلغ من عهدته المالية في فِلم «أم العروسة» الصادر عام 1963. والملاحظ أن أغلب الأفلام هنا ذات طابع عائلي لا تمتلك قيمة نقدية كبيرة، ولكنها تمتلك قيمة وجدانية.

وبالطبع هنالك أيضًا أفلام أمريكية وإن لم تكن مفهومة لفظيًا إلا أنها كانت مفهومة بصريًا وعاطفيًا ويسهل إدراكها. منها ما كان يتغذى على العاطفة الدينية بنجاح مثل فلم «عمر المختار أسد الصحراء» الذي آلف الناس من خلاله وجه أنطوني كوين فأصبحوا ينادونه باسم المقاوم الليبي عوضًا عن اسمه، حتى في أدائه دور حمزة بن عبدالمطلب في فِلم «الرسالة». 

وهذا ينطبق كذلك على الممثل كلينت إيستوود وأفلامه التي تُفهَم من خلال الحركة والملامح الوجهية التي يسهل استدراك شرها وخيرها. ففي عائلتنا أصبح اسم كلينت إيستوود «راضي» نظرًا لتشابه ملامحه مع ملامح قريبٍ لنا، وكلما أعدنا أحد أفلامه نادينا عليه باسم راضي!

الرأي الثاني

قد يقترن مفهوم العمل الكلاسيكي بعملية تفضيلٍ استرخائية ندرك من خلالها الملاحظات والتفاصيل الصغيرة التي لا تنتقص من ذكائنا ومن عملية تلقفنا للرسائل المبطنة. ولا تتطلب منا بذل جهد ذهني كبير حيال ما زرع في الفيلم من حبكة تلقفناها مسبقًا وأعجبنا بها، وشعرنا بالإنجاز في حلها. وهذا ما يسمى بـ«مبدأ الألفة» المعني بتفضيل ما نعرفه، وهو السبب الأكثر مللًا على الإطلاق والأكثر واقعية في الوقت نفسه. كون تكرار التجربة أشبه بإعادة التهام الوجبة نفسها على غداء اليوم، والغد، وبعد الغد، والتلذذ بها، وعدم الاكتفاء من استلال أنفاسنا من السجائر والشعور بالانتشاء نفسه. هكذا تمامًا يجد المشاهد متعته دائمًا مع كل تكرار. 

الرأي الثالث 

قد يكون بحجة تقديرنا لمصطلح «كلاسيك» المشتق من كلمة (Class). كأن نستحضر رائعة ستانلي كوبريك «2001 :A Space Odyssey» الصادر عام 1968 كنموذج يُدرّس، وذو قيمة أبدية عن فئته في أفلام الفضاء والخيال العلمي. نستحضره كنظرة تفحصية حيال عمل كلاسيكي متكامل الأركان، يحتوي مثله مثل غيره من الأعمال الكبيرة، على تمهيد وتصعيد وتعقيد وذروة وتعليق.

وهذا هو الخيط الأخير في لخبطة الآراء في زاوية عقلي! 

فالاحتمالات تتزايد، ولكن الأكيد أنَّ حبنا للعودة إلى هذه الأفلام يحتمل جميع الآراء أعلاه التي تعبر عن مراحلنا الحياتية ونضجنا الفني. ولعل الأعمال القديمة الأقرب إلى نشأتنا في طابعها التربوي ساهمت في تشكيل سلوكياتنا الأخلاقية وصقلها أكثر من الأفلام التي أصبحت تتبنى رؤى مختلفة عن التي عهدناها، بل وكنا ننبذها قبل أن تتشكل بصورتها الجهورية. أو لربما اشتقنا للخيارات المحدودة التي نستحضر من خلالها فلسفة «البركة في القليل» (Less is more). 

ولم تشكل أفلام الموجة البريطانية والطليعية والواقعية والشعرية والتعبيرية أي مشهد كلاسيكي بالنسبة لأغلبية المشاهدين، بل كان للأفلام الهوليوودية نصيب الأسد، ومن بعدها اليابانية. فالأعمال التي أخذت بالتداول ويشار إليها بالكلاسيكية كانت تقريبًا تستجلب من كافة الأزمنة بدءًا من العشرينيات وصولاً للتسعينيات، من فِلم «The Kid» لتشارلي شابلن إلى «Citizen Kane» و«Casablanca»، وأعمال المخرج ألفرد هيتشكوك الذي ابتدع المشاهد التي أصبحت تسمى اليوم «هيتشكوكية»، وأعمال المخرج الياباني أكيرا كوروساوا الذي ساهم في تداول المصطلح الأوكسفوردي «تأثير راشومون» بسبب فِلمه «Rashômon» المعني بالحيرة البالغة إزاء عدة شهادات تبدو جميعها صادقة! 

وصولًا لأعمال التسعينيات التي شاهدتها مرارًا في مراحل حياتي كونها تحمل طابع النهاية غير المتوقعة مثل فِلم «Sixth Sense» الذي يكتشف البطل فيه أنه شبح ميت. وفِلم «Fight Club» الذي نكتشف فيه أنَّ البطلين المتصارعين هما الرجل نفسه. 

ولعل هذه الأفلام كانت تتناسب مع مرحلة الاستكشاف المراهقاتية، وحب الاطلاع وإدراك البيِّن من الخفي. فالملاحظ في أفلام التسعينيات التي أحبها أنها كانت تتمتع بميزة التلغيز التي تختبر الذكاء بشكل أنيق، لا سيما في عملية السرد المقلوب والتحول والنهاية غير المتوقعة. 

عودة إلى سؤال نايف أعلاه: لماذا أشاهد الأفلام الكلاسيكية؟ 

بالنسبة لي بسبب الآراء الثلاثة، وأيضًا للأسباب المغايرة التي غفلتُ عنها، وقد يستحضرها القارئ في عملية تنقيبه للذاكرة عن فِلمٍ لا يكف عن دفع جزء من ثروته مقابل تكرار مشاهدته، ‏والثروة هنا عمرية. 

أما سؤالي الإضافي هو: ما أكثر فلمٍ كلاسيكي عدت إليه؟ 

بالنسبة لي، هذا الفلم هو «كازابلانكا». 


اقتباس النشرة

فلم «Apocalypse Now»
فلم «Apocalypse Now»

أكشن 🎬

اليوم نقول أكشن 🎬 في هذا المشهد من فلم «Spotlight». تدور القصة حول فريق من الصحافيين يحقق في الاعتداءات الجنسية على الأطفال اللي تورطت فيها الكنيسة الكاثوليكية.📰

في هذا المشهد، تدفع شخصية الصحفي «مايك ريزنديز» -اللي أداها مارك رافالو- نحو زيادة الضغط على الكنيسة وعدم السماح لها بالإفلات من تغطيتها على جرائم الاعتداءات. ونشهد في هذي اللحظة ذروة أداء الشخصية بعد تتبعها القضية طيلة الفلم، وكبت ريزنديز كل مشاعره المؤلمة وهو يستكشف الحقائق الفظيعة.

نشاهد هنا لحظة الانفجار الأهم اللي تعبر عن الجانب الإنساني للصحفي بعيدًا عن تحقيق السبق ونيل المجد الإعلامي. في أداء مذهل من مارك رافالو، نستشعر الغضب المفعم بالأسى والألم في صوت الشخصية وملامحها وعيونها، ونستشعرها أيضًا في ملامح الاستغراب والتعاطف على وجوه الشخصيات حوله.

مارك رافالو ترشح لجائزة أفضل ممثل مساعد في الأوسكار عن أدائه في هذا الفلم، ويستاهلها.


توصيات سينمائية

توصيتنا في هذا العدد هي لفلم من أعظم الأفلام اللي ممكن تشاهدها في حياتك، وأكثر شي ظل في بالي بعد مشاهدته وعجزت عن نسيانه هو جمالية النص وطريقة كتابته الذكية.

يفتتح فلم «هاراكيري» (Harakiri) بمشهد لساموراي يدخل على قصر سيِّد إقطاعي ويطلب منه طلب غريب: السماح له بأداء طقوس الانتحار «السيبوكو» في ساحة قصره. و«السيبوكو» في أعراف الساموراي طريقة موت تطهرك من كل ذنوبك وخطاياك، وتجعل نهايتك مشرفة يفتخر بها كل معارفك.😕🗡️

القصة مو هنا، القصة تبدأ لما نعرف إنها ليست المرة الأولى التي يتلقى فيها صاحب القصر هذا الطلب! وتقودنا الأحداث إلى حوار بين ذاك السيد وهذا الساموراي يكشف من خلاله خبايا كثيرة، ونعرف لماذا طلب «السيبوكو» هذي المرة مختلف عن غيره.

إذا كتبت عن الفلم كلمة زيادة حتى أقنعك بمشاهدته احتمال كبير أقع في فخ الحرق 🔥👀 لكن أضمن لك إنَّ «هاراكيري» تحفة كلاسيكية خالدة تستحق وقتك. 


ميم النشرة


دريت ولا ما دريت؟

«الساموراي السبعة» من أعظم الأفلام الكلاسيكية، والفلم الكلاسيكي في اعتقادي هو اللي تستطيع مشاهدته في أي وقت، وتقدر تستند على قصته لصناعة فلم في بيئة مختلفة وفي مكان وزمان مختلفين، مثل ما صار مع فلم «العظماء السبعة» (The Magnificent Seven) في كلتا نسختيه عام 1960 و2016. وبرأيي نقدر نصنع فلم سينمائي سعودي لـ «سبعة فرسان في الجزيرة العربية». 😍🐎

  • يُعرف عن كوروساوا أنه أعظم أساتذة أفلام الساموراي، لكن  المعلومة الأهم أنه عمل أكثر من عشر سنوات كمخرج قبل صناعة فلم «الساموراي السبعة»، وتبع ذلك كلاسيكيات أخرى مثل «يوجيمبو»(1961) و«سانجورو» (1962).

  • عندما شرع كوروساوا لأول مرة في إنتاج فلم الساموراي، جلس مع كاتب السيناريو شينوبو هاشيموتو وطرح فكرة «قصة يوم في حياة» وتتناول قصة ساموراي واحد. تدور القصة حول محارب يستيقظ صباحًا، يتناول إفطاره، ويذهب للعمل في قلعة سيده، ثم يرتكب خطأ يشعر بعده بعار شديد لدرجة أنه يعود إلى المنزل وينتحر بالـ«سيبوكو»، لكن لاحقًا تغيرت الفكرة.

  • منتج الفلم سوجيرو موتوكي هو مبتكر الفكرة البديلة. خلال بحثه وجد أن الساموراي في فترة «الممالك المتحاربة» من التاريخ الياباني كثيرًا ما يتطوعون لحراسة قرى الفلاحين طوال الليل مقابل الطعام والسكن. فطوَّر كوروساوا مع هاشيموتو فكرة مجموعة من الساموراي تستأجرهم قرية فلاحين لحمايتهم من قطاع الطرق، وهنا كانت ولادة «الساموراي السبعة».

  • بسبب طول عملية الإنتاج، زاد قلق المنتجين من مبالغات إنفاق كوروساوا المالية على الفلم، فتوقف الإنتاج مرتين على الأقل. وبدل ما يضيِّع كوروساوا وقته وطاقته في الجدال معهم كان يطلع ببساطة للصيد، لاعتقاده أن الأستوديو استثمر أساسًا الكثير من المال على العمل، لدرجة جعلت خيار إلغائه غير مقبول. «صاحبنا ذكي، ريَّح قلبه وما دخل حالة المخرج الفاقد أعصابه!😂»

  • البحث التاريخي العميق كان جزء من عملية الكتابة، وبسبب ذلك استندت بعض الشخصيات على شخوص تاريخية حقيقية. على سبيل المثال، المبارز البارع كيوزو «سيجي مياقوتشي» كان مستوحى من مياموتو موساشي، أحد أشهر الساموراي الذين عاشوا على الإطلاق.

  • كان كوروساوا يعرف أن هناك أجزاء من الحدث لا يمكن التقاطها إلا مرة واحدة، خاصة في مشاهد المعارك. ولتحقيق أقصى قدر من التغطية، نَصَب ثلاث كاميرات مختلفة في موقع التصوير، ثم حرّر اللقطات لإنشاء تسلسل ديناميكي للأحداث. هذي الآلية، مع العدسات المقربة اللي سمحت للكاميرات بتكبير الحدث، أدت إلى ابتكار أسلوب ثوري في صناعة الأفلام، واستمر كوروساوا في استخدامه طوال حياته المهنية. 

  • رفض الممثل سيجي مياقوتشي إنه يلعب دور «كيوزو» -أعظم مبارز في الفلم- لأن في حياته ما مثَّل أي دور يستخدم فيه السيف. لكن أقنعه كوروساوا بأنه سيجعل مشاهد السيف أفضل من خلال زوايا الكاميرا والتحرير، ووافق مياقوتشي في النهاية على أداء الدور. للعلم فقط حتى نعرف السبب وراء قلق مياقوتشي: السيوف كانت حقيقية وأي غلطة تطيّر راس بني آدم!😳

  • إذا كنت من محبي سلسلة «ستار وورز»، خلينا نقول لك إنَّ فلم «الساموراي السبعة» له تأثير كبير عليه. ونترك لك هنا متعة عقد المقارنات بين السلسلة الفضائية وعالم الساموراي.😉

النشرة السينمائيةالنشرة السينمائيةمقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.