النورس جوناثان: رواية تذكرنا بالأمير الصغير 🤴🏻

ربما تكون رسالة النورس «جوناثان» الأخيرة الثابتة مهما تغير الزمن والأوضاع هي أن نعود إلى ذواتنا، ونضع كل أفكارنا موضع تساؤل.

النورس جوناثان محلقًا في السماء / Getty Images
النورس جوناثان محلقًا في السماء / Getty Images

النورس جوناثان: رواية تذكرنا بالأمير الصغير

إيمان العزوزي

غالبًا ما أتوجس خيفةً من الكتب التي تزين أغلفتها بشارات الأكثر مبيعًا، ومع ذلك، بدافع الفضول «ولقصرها»، قررت فتح رواية «النورس جوناثان ليفنقستون» للمؤلف الأمريكي ريتشارد باخ، وكان اسمه بحد ذاته محفزًا، إذ يُشاع أن باخ ينتمي إلى عائلة الموسيقار العظيم يوهان باخ. أحيانًا تكون قراءة بعض الكتب مجرد استجابة للسؤال: «ما الذي قد أخسره إن قرأته؟»

لم يكن «جوناثان» مثل باقي النوارس، بل كان متفردًا، ويمتلك روحًا مشابهة لروح «الأمير الصغير»، الشخصية التي خلقها الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، والمثير للاهتمام أن كلا الكاتبين عمل طيارًا والتحق بالقوات الجوية، وقد استخدما تجاربهما في الطيران لتوسيع آفاق شخصياتهما. عندما ناقشت رواية الأمير الصغير مع أصدقائي وتساءلت عن الجمهور المستهدف بهذا السرد أجابت صديقة بأن هذه القصص نقرؤها ونحن صغار فنحبها، وعندما نعود إليها كبارًا نفهم معانيها، وهذا التفسير وصفٌ مثاليٌ لتجربة قراءة هذين العملين الأدبيين.

لم أتمكن، للأسف، من تجربة القراءة البريئة للطفل المليئة بالحب والدهشة، حيث يمكن لهذا الطفل أن يرى في «جوناثان» شخصية مألوفة تشبه تلك التي يجدها في عالم الرسوم المتحركة، حيث تسود «فيزياء الكرتون» (Cartoon physics)، وحيث الإمكانات لا حدود لها والمعجزات ممكنة، وسيبدو اختلاف طريقة طيران «جوناثان» عن السرب أمرًا طبيعيًا ومتوقعًا. أما القارئ البالغ فقد يميل إلى رفض القصة، ويرى الرمزية الظاهرة فيها تسطيحًا لا يليق بالأدب الرفيع، أو قد يعدها، على النقيض، رمزية محكمة الصنع، مفعمة بالذكاء والحنكة والشاعرية، وهذا ما يمنح الأدب زخمًا يتيح له الاندماج والتفوق في مجالات الكتابة المتنوعة.

يؤمن باخ بفكرة «الإرشاد» أو (Mentorship)، وقد استوحى اسم النورس من معلمه ومرشده الطيار جون ليفنقستون الذي توفي في سن متقدمة وهو يزاول ما أحبه: الطيران. عاش باخ طيلة حياته مثل معلمه محلقًا أو يمارس مهنة قريبة من الطيران، فهو يؤمن بأن السماء مفتوحة على كل الاحتمالات وأننا لم نخلق إلا لكي نعكس حركية الحياة ونعبر عن أرواحنا ولا نرضخ لقوة الجاذبية أو الجدران الإسمنتية، بل نتجاوز حتى أجسادنا. مرر باخ هذه الأفكار إلى النورس الذي حلّق عاليًا مبتعدًا عن سربه وأفكاره البالية. 

يقرأ البعض الرواية كاستعارة دينية تُجسد دورة الأديان التي تنطلق من الجهل نحو النور، مرورًا بالرفض والقبول، ثم تعود لتضعف من جديد. «جوناثان»، الذي أبى الركون إلى كسل قبيلته وجهلها والاكتفاء بفضلات الأسماك على القوارب والشواطئ، ارتفع في أعالي السماء محلّقًا في مسعًى للتنوير بحثًا عن الحرية والتحول الروحي. في رحلته يلتقي بالمعلمين الأوائل الذين يشاركونه حكمتهم ونورهم، ثم يعود إلى سربه مرشدًا يحمل تعاليمه الرامية إلى الخير العام. يواجه الأذى والرفض والإنكار، ولكن مع الزمن سيجد من بين النوارس من يؤيده وينشر تعاليمه، بعد اختفائه الذي يشبه تمامًا طريقة اختفاء صاحبه «الأمير الصغير»، تصبح هذه التعاليم مقدسة كما كان شخصه، ومع مرور الوقت تفقد جوهرها ويتعلق النوارس بمظهرها، وتعود الأمور إلى سابق عهدها، في انتظار ظهور نورس جديد.

لا يمكنني إغفال البعد الديني في الرواية، خصوصًا في الفصول الأخيرة التي تضمنت حقلًا لغويًا كنسيًا، ومع ذلك، ما جذبني حقًا هو تمكن باخ من صياغة أفكاره بأسلوب واضح وسلس، وطريقته في الإجابة عن الأسئلة الفلسفية دون الغوص في المفاهيم المعقدة التي قد ترمي القارئ في متاهة تزيده حيرة، كما أنه قدم نهجًا للتطوير الذاتي دون الوقوع في فخ كتب التنمية الذاتية، المبتذل منها على الأقل، وهو ما يعده البعض نقطة ضعف في الرواية، ولا أتفق مع هذا الرأي؛ لأن باخ لم يقدم الحلول جاهزة، بل علمنا أهمية طرح الأسئلة كخطوة أولى.

لاحظ «جوناثان» التغيير في نفسه عندما بدأ يتساءل عن سبب قدرته على الطيران لفترات طويلة فوق الماء وعلى ارتفاعات منخفضة، وهو أمر غير معتاد بين النوارس الأخرى. هذا الفضول دفعه إلى استكشاف قدراته الخاصة والتساؤل عن حدود ما يمكنه فعله في الجو، ومِن ثَمّ أثار هذا الاستفسار لديه روح الملاحظة والرغبة في التجربة، ودفعه إلى تحدي القيود والقوانين التي تفرضها قبيلته، والتي تعتقد أمه أن احترامها يجلب السعادة. من خلال رحلة «جوناثان» بحثًا عن المعرفة والحرية يسعى باخ إلى تحدي مفهوم الامتثال، أي الالتزام بتقاليد الجماعة حتى لو كان ذلك يعني تغيير المعتقدات الشخصية. «جوناثان» في هذا السياق لم يكن أقل تهديدًا للامتثال من أي شخصية أدبية أخرى معروفة.

أصبح النورس بسبب بساطة القصة نموذجًا يطغى على ثقافة السبعينيات اللاهثة نحو الحرية، كان قانون «جوناثان» الذي ينص على أن «القانون الصحيح الوحيد هو الذي يؤدي إلى الحرية، ودون ذلك لا شيء» شعارًا لفناني المرحلة وحركات الحقوق المدنية والنسوية، ومن اللافت أن يعود ريتشارد باخ في التسعينيات إلى تضمين الكتاب فصلًا رابعًا يغير رؤية القراء نحو نورسهم. حين نشرت القصة أول مرة في السبعينيات توقّف القارئ عند النهاية السعيدة للقصة باختفاء النورس مخلّفًا رسالته يتناقلها تلامذته، وأتت النهاية غارقة في المثالية والتعالي وتفرض تفاؤلًا لم تستطع العقود بعدها أن تحافظ عليه. بعد مرور باخ بوعكة صحية أضاف الفصل الرابع إلى الكتاب، الذي يعزّز النهايات المتوقعة لكل الأفكار التي تبدأ كبيرة وتنتهي طقسًا مفرغًا من جوهره. وهكذا لم تعد قراءة الكتاب مثالية كما كانت زمن السبعينيات، بل واقعية تبعًا لما يعيشه القارئ من تحولات مستمرة.

ربما تكون رسالة «جوناثان» الأخيرة الثابتة مهما تغير الزمن والأوضاع هي أن نعود إلى ذواتنا، ونضع كل أفكارنا موضع تساؤل، وألّا نخجل من الاعتراف باختلافنا، وأن نسعى نحو الآخر مشاركين ما نحب ونمضي في شغفنا إلى أقصاه دون أن نشعر بالخوف من الإقصاء، وأن نكون غيمة في سماء أحدهم، وأن نجعل حياة الجماعة أكثر إشراقًا. لحظة الولادة الحقيقية التي عاشها «جوناثان» هي اللحظة التي وصفتها مارقريت يورسنار قائلة: «اللحظة التي يلقي فيها المرء لأول مرة نظرة ذكية نحو ذاته.»


  1. فُجع العالم العربي بنبأ وفاة الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبدالمحسن في العاصمة الفرنسية باريس بعد صراع مع المرض. يُعد الراحل أحد أبرز روّاد الحداثة الشعرية في الجزيرة العربية وله العديد من المنجزات الأدبية. وتعتزم هيئة الأدب والنشر والترجمة جمع وطباعة الأعمال الأدبية الكاملة للأمير بدر بن عبدالمحسن تنفيذًا لتوجيه وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، تقديرًا لإسهاماته في الحراك الإبداعي السعودي خلال خمسة عقود. 

  2. غيّب الموت المترجم السعودي والرئيس المشارك لدار جداول للنشر والتوزيع الدكتور يوسف الصمعان. أثرى الراحل المكتبات العربية بترجمة عدد من مؤلفات علم النفس، ومنها: كتاب «جنون من الطراز الرفيع: الكشف عن الترابط بين الزعامة والأمراض العقلية» وكتاب «الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي» وكتاب «فرويد وأتباعه». 

  3. توفي الروائي والمخرج الأمريكي بول أوستر في منزله ببروكلين في مدينة نيويورك الأميركية عن عمر يناهز 77 عامًا بسبب مضاعفات سرطان الرئة. عُرف الراحل بكتاباته التي تجمع بين الوجودية والعبثية، كما تُرجمت بعض أعماله إلى العربية، ومن أبرزها: «اختراع العزلة» و«كتاب الأوهام» ورواية «1234» ورواية «غير مرئي». 

  4. تنطلق يوم غد الخميس فعاليات معرض الدوحة الدولي للكتاب في دورته الثالثة والثلاثين في مركز الدوحة للمعارض والمؤتمرات، خلال الفترة من 9-18 مايو 2024 تحت شعار «بالمعرفة تُبنى الحضارات»، كما تحل سلطنة عمان ضيف شرف لهذه الدورة. 


توصيات النشرة من رغد الجميلي:

كتاب الخيميائي رواية تلامس الروح ومليئة بالفلسفات العميقة عن سانتياقو، شاب إسباني ميسور الحال قرر أن يتخلى عن كل شيء ويرعى الغنم، فيحلم بكنز في صحراء مصر، فيضرب في الأرض للوصول إلى كنزه الخفي برحلة توشك أن تكون هي كل كنوز الأرض، تعلمه عن الكون و النفس البشرية والأماني والأحلام، وعن لغة مشتركة بيننا وبين الحياة لا يسمعها إلا من انتشى منها، تدلّه على درب الروح وتستخرج الذهب من نفسه.

  1. الكون في راحة اليد، جيوكوندا بيللي

الكتاب الورقي / الكتاب الإلكتروني / قودريدز

كتاب الكون في راحة اليد رواية للكاتبة جيوكوندا بيللي. أطلقت الكاتبة خيالها تتأمل في قصة النشأة الأولى (آدم وحواء) وكيف كانت تفاصيل حياتهما والأحاسيس الأُوَل لكل شيء، حيث عالم كامل كل شيء فيه جديد عليهما، حتى أجسادهما غريبة عليهما، فتغوص الكاتبة في أبعاد الأعماق للقصة، وتخوض في الجوانب الفلسفية والمعاني العميقة للخير والشر والمعركة الأزلية مع الشيطان وسعيهما إلى العودة إلى الجنة، والكثير من الأحداث المليئة بالإثارة والدهشة.

  1. الرجل الذي حسب زوجته قبعة، أوليفر ساكس

الكتاب الورقي / الكتاب الصوتي / الكتاب الإلكتروني / قودريدز

كتاب «الرجل الذي حسب زوجته قبعة» لطبيب الأعصاب الكاتب المميز أوليفر ساكس. يحوي مجموعة من القصص الحقيقية التي حدثت مع مرضاه، وهي أشبه بالخيال من شدة غرابتها، فيصف آلية عمل الدماغ بطريقة مدهشة وسهلة الفهم على القارئ. يقدم الكتاب قصصًا ملهمة ومؤثرة وتحوي الكثير من الدهشة في طياتها بأسلوب أدبي رائع، وتروي معاناة المرضى وكيف يواجهون مشكلاتهم وكيفية تكيف العقل معها.

  1. العيش الطيب، عبدالله الهاشمي

الكتاب الورقي / قودريدز

كتاب العيش الطيب للكاتب السعودي عبدالله الهاشمي ملهم وبمثابة صيدلية علاجية لمشكلات النفس وليس مجرد مسكنات للألم النفسي، فبعد أن أنهيت قراءته لم أشعر سوى بأني الآن أستطيع أن أتوقف عن الجري في الحياة وأجلس في داخلي بسلام وأشرب شاي النعناع، بعيدًا عن كتب علم النفس الدسمة والحشو الممل. فكرة الكاتب أن الأساس في دواخلنا هو السلام والامتنان العميق والحب وبساتين الربيع الأبدي، ولكننا أثقلنا كواهلنا بمقاومة الألم والصراع مع أنفسنا ومع ما يجب أن نكون عليه، فيأخذ بيدنا بكل لطف لنلمس آلامنا العميقة بلطف و«نسمي عليها» ونتعامل معها بطريقة صحيحة لطيفة تدعنا نودّع المقاومة فيحل السلام على جراحنا وتلتئم باسم الله الشافي.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.