هؤلاء أطيقهم!

ما فائدة ذائقة تقبل كلّ شيء؟ ما فائدة معدة تهضم كلّ شيء؟ إذا كان المرضى وحدهم لا يحبون أي شيء، فإنّ البلهاء وحدهم يحبون كلّ شيء.

يدين كاتب هذه السطور بالعنوان أعلاه إلى مؤلَّف -بفتح اللّام- «أفول الأصنام» (Twilight of the Idols)، مثلما يدين إلى مؤلِّفه -بكسر اللّام- نيتشه بأحد أعمق التصورات عن الذائقة القرائية: الذائقة التي تكره بدلًا من أن تحب. نعتقد عادة أنّ الذوق والذائقة ملكتان تجدان قوامهما في الإيجاب، وفي القبول، وفي فعل التقبُّل والرضا؛ في حين أنّ الحقيقة، وإن كانت لا تنفي ما سبق، فإنّها لا تعدم كذلك الوجه الآخر، وجه السلب والبغض والنفور وعدم التقبُّل… فإذا كانت ذائقتي الموسيقية تقوم على اختيار نوع موسيقي محدد، أو أسماء موسيقية معيّنة؛ فمن البديهي أنّ الأمر ينطوي على إقصاء أنواع وأسماء أخرى. بل قد يكون لفعل الإقصاء ما يبرره أكثر ممّا لفعل الاصطفاء.

يدفع نيتشه بهذه المعادلة إلى أبعد الحدود؛ فالفيلسوف الذي لم يزل يشدّد على ضرورة المجاوزة، بنى شبكة بكاملها من علاقات التباعد والتنافر والقطع وخلق المسافات، لدرجة أنّ المشتغل على نصوص نيتشه لا يمكن أن يكشف عن ذائقته إلا في السلب. فأكثر مما تكشف نصوص الفيلسوف عن ميوله، تكشف عمَّا لا يطيقه؛ الموسيقا التي يبغضها، والكتّاب الذين لا يحتملهم، والكتب التي تثير سخريته، والشعب الذي لا يرقى إلى مستوى فلسفته، حتى النظام الغذائي الذي يثير قلقه. فبخلاف أولئك المرتكسين الذين لا يعرفون كيف يقدّرون قيمة الشيء، لأنّهم عاجزون عن أن يكرهوا، وعاجزون عن فضيلة الكره؛ يعلّمنا الفيلسوف الألماني أنّ قيمة الذوق الفعلية لا تنحصر في التطبيل والتهليل لكل ما يُكتب، وإنّما في التعرية والكشف عن الوجه السيء، وعن الناقص. ولا ينبغي أن نعتقد أن الأمر يتعلّق هنا بحساسيات شخصية مثلما ألفنا في مشهدنا الثقافي.

مشهدنا النقدي والإبداعي لا يعوزه البغض والكره؛ لكنّه ليس البغض الذي يبني، إنّه بغض الضعفاء، وليس بغض الأقوياء. بغض الضعاف أولئك الذين تنم كتاباتهم الانتقاصية عن أنّهم يتموقعون في مرتبة أدنى مما ينتقدونه، أو يختارون من هو أدنى لينتقدوه. بُغض الأقوياء بغض آخر، بغض مختلف، بغض يعيد النظر الجذري في موازين القوى، ويعيد تشكيل الذائقة الأدبية بشكل لم يسبق أن فكرنا به. مع الأقوياء وحدهم نلفي أنفسنا وجهًا لوجه مع السؤال المحرج: هل حقًا كنت أحب هذا؟ كيف لم يخطر ببالي هذا؟

مع نيتشه تتحول أصنامنا إلى فزاعات قشّ، ومعه فقط نفهم المعنى العميق لتقدير الشيء، بما هو وضعه في قدره. يلتبس علينا معنى التقدير عادة، ولا نستعمله إلا إيجابًا بمعنى الرّفع، في حين أن وضع الشيء في قدره لا يعدم فكرة الحط منه!

فمع نيتشه يصير كانط، الذي استطاعت أجيال من الألمان تحمّله بصبر الجياد، كسيح الفكر ومعلّم الرياء الأول. ويصير الشعب الألماني الذي يعتقد نفسه شعبًا أعلى، أكثر الشعوب انحطاطًا، شعبًا تعرّض للتبليد ما يزيد على ألف سنة. ذلك أنّه لا مكان في العالم أفرط فيه الناس في تعاطي أقوى المخدرات الأوربية: الكحول والديانة المسيحية، مثلما حدث في ألمانيا. هذا الشعب الذي يدفع بالفيلسوف إلى الخجل، كلّما سأله أحدهم هل هناك فلاسفة ألمان؟ هل هناك شعراء في ألمانيا؟

وتصيرُ موسيقا ليست إطلاقًا لعنان الإلهام، لا لشيء سوى الركض في أثر النساء! وتصيرُ كتب روسو مزيفة وفارغة ومختلقة ومتكلّفة ومبالغ فيها. وعلى منوالها تصير كتب جورج صاند، كتب بقرة الآداب الحلوب، باردة مثل هوقو وبلزاك، ومثل كلّ الرّومانسيين حين يشرعون في النظم!

مع السلب ينكشف الإيجاب، ونستطيع أن نستشف ما تميل إليه الذائقة. ذاك أنّ في المسافة مع الأشياء تتربى الذائقة، في اللّحظات النشاز، في لحظات الابتعاد عمَّا نحبّه، حين نسأل أنفسنا: «ما هذا الذي خلنا أنفسنا نحبه؟» Click To Tweet

فمن أمارات الضائقة التي تعيشها ذائقتنا أنّنا لا نستطيع خلق المسافات، لا نستطيع أن ندفع بالسلب إلى مداه الأقصى، لا نستطيع أن نكون لائحة، ولو مختصرة بأولئك الذين لا تطيقهم ذائقتنا.

يبلغ هذا التقدير مداه اليوم في قراء لا يقرؤون، قراء يقدّرون كلّ من يرنّ اسمه، قرّاء يحبون الكتب كلّها، بما في ذلك تلك التي لم يقرؤوها. مَعدات أدبية تربّت وتقوّت لتهضم أيّ شيء، معدات فقدت الرّقة والرهافة الضروريتين لرفض أطعمة وقبول أخرى، معدات فقدت غريزة التصنيف، ففاتها أن تُربي حسّ الذائقة الأولى، حسّ الإقصاء.

ما فائدة ذائقة تقبل كلّ شيء؟ ما فائدة معدة تهضم كلّ شيء؟ إذا كان المرضى وحدهم لا يحبون أي شيء، فإنّ البلهاء وحدهم يحبون كلّ شيء.

الإنسانالثقافةالفلسفةالنقدالرأي
مقالات حرةمقالات حرة